اوراق منسية(مس بيل)ح8 الروح العاصفة
عاد سعدون باشا (من الدهناء إثر انتهاء خطته مع ابن رشيد لعقاب قبيلة الظفير) إلى الخميسية، بينما استقرت قبيلة الظفير في البقاع المجاورة للزبير عند سفوان وكويبدة، وقد كان فخذ من قبيلة الظفير، وهم «السعيد»، مع قبيلة شمر في ذلك الوقت، ولكنهم جاءوا الآن لكي يلحقوا بسعدون عند الخميسية، وتحرك سعدون وأتباعه، بالإضافة إلى «السعيد» إلى منطقة علوي، وقد كانوا على مسافة قريبة من قبيلة الظفير الذين قاموا مباشرة بجمع قواتهم وطردوا سعدون ثم عادوا إلى مضاربهم.
انتهز الأتراك هذه الفرصة لكي يرسلوا عملاءهم إلى البصرة للاتصال بسعدون بشأن مسألة جعله أميرا على ديرة المنتفق على شط الحي. وقد كان مبارك الصباح في ذلك الحين في المحمرة فاتصل بالسيد طالب (النقيب)، وقيل إنه عرض على السيد طالب 3000 ليرة لإقناع الحكومة بالقبض على سعدون ووضعه في السجن، ووافق السيد طالب وبيّن للعملاء الأتراك مدى بشاعة السياسة التي قد تجعل من الروح العاصفة مثل سعدون زعيماً لجماعة من القبائل تنفر من رعونته، وقال: «دعوني احضر سعدون إلى البصرة والبقية سهلة».
حادث بيت النقيب
ما حدث بعد ذلك مشهور في التاريخ العربي، فقد انصاع العملاء الأتراك للاقتراح الشائن من السيد طالب، وتمت دعوة سعدون إلى منزل السيد طالب، وهو معروف باسم «بيت النقيب»، وقَبِل الدعوة من دون شك وحضر في موعده.
وبناء على ترتيبات من السيد طالب كان من المفترض ترك سعدون ينام آمنا خلال الليل وأن يتم دعوته في الصباح لتناول الطعام، بينما السيد طالب يبدي اعتذاره بأن لديه أمرا يشغله مع الحريم، وعندما تناول سعدون وجبته أرسل العملاء الأتراك رجالاً متخفين في زي مبعوثين من الوالي لدعوته إلى الحضور أمام الوالي في السراي. وتم تنفيذ الخطة بنجاح، وغادر سعدون بيت النقيب مع المبعوثين المزعومين التابعين للوالي، ولكنهم عندما وصلوا إلى السراي تم إبلاغهم أن الوالي قد ذهب إلى العشار. وسعدون الذي لم يساوره الشك في الأمر جرى اقتياده في «بَلَم» (قارب تقليدي في المنطقة) إلى العشار، ومن هناك اقتيد مباشرة إلى مركب حربي تركي حيث أُبلغ بأنه سجين. وغادر المركب الشاطئ في هدوء الليل وعند وصوله إلى بغداد، حيث اقتيد سعدون إلى حلب وبقي هناك مسجوناً حتى مات لاحقا. ومن وقت قيام السيد طالب بالعملية الخادعة، فان زعيم المنتفق الكبير اختفى من التاريخ واحتل مكانه ابنه الثاني عجمي.
طلب الحماية
حاصر رجال قبيلة البدور عجمي (ابن سعدون باشا) في ذلك الوقت في حصن في الشمال الغربي من الناصرية عند المايعة، وتمكن العملاء الأتراك من فك حصاره وتركوه يذهب، فهرب إلى قبيلة آل غزي، ولكن شيخ قبيلة آل غزي، وهو ابن حبيِّب، لم يكن مستعداً أن يحمل على عاتقه مسؤولية حماية هذه الروح القلقة وأجبر عجمي على السعي إلى الحصول على الحماية من مكان آخر.
وعلى الرغم من أنه أعزل فإنه كان غير يائس، إذ امتطى ذلوله وحيدا ميمما حائل... وهناك أناخ ذلوله أمام أميرها ابن رشيد وقال: «أيها الأمير اطلب حمايتك وعونك على أن تنتقم لي من أعدائي، فلي حق عليك فبينما كان والدي سعدون تحت حمايتك اعتُدي عليه وقُهر من قبل الظفير».
المراعي الصيفية
بقي زعيم المنتفق الجديد عجمي بن سعدون في حائل لبعض الوقت حتى وافق أخيرا ابن رشيد على مساعدته على مهاجمة قبيلة الظفير، وذهب عجمي يطلب العون من قبيلة الجوارين، وفي أول فرصة التقى فيها ابن رشيد بالعدو ولى الأدبار واستدعى لمعاونته ضاري بن طواله شيخ الأسلم من شمر، وبعد ذلك عاد للقتال وهاجم وهزم الجمع المحتشد من قبيلة الظفير والبدور بين شقراء وأبو غار، ووصل عجمي متأخراً بيوم بعد ذلك، وعاد ابن رشيد إلى حائل وترك المطران الذين كان قد استدعاهم أيضاً لمساعدته وذلك كحماية لعجمي.
كان ذلك في ربيع عام 1913، وفي الشتاء التالي عادت قبائل الظفير والبدور من مراعيها الصيفية في شمال وغرب الناصرية. وكان عجمي مازال قادراً على استدعاء قبيلة مطير، ولكنه كان يخشى بأنه لم يكن قوياً بدرجة كافية لصد الهجمات، توسل إلى بني مالك، إحدى عشائر المنتفق، واستمالهم إلى جانبه، والتقت القوات المتحاربة في مكان ما بين شقراء والرخيمية، ولكن قبل التقائهم دخلت قبيلة البدور في مفاوضات سرية مع بني مالك لأن قبيلة البدور هي أيضا إحدى قبائل المنتفق.
بيت مال مزيد
فرَّ بنو مالك من المعركة أو أظهروا مقاومة ضعيفة، مما أدى إلى حصار عجمي وقبيلة مطير وتم الاستيلاء على متاعهم ورحلهم، وفر عجمي مع فلول قواته إلى سفوان، حيث بقي هناك حتى نهاية فصل الصيف، وبعد ذلك انتقل إلى الغباشية حيث دبَّر بطريقة بشعة سرقة مال من أحد أقاربه- ابن عم والده-واسمه مزيد (الفالح) وكان قد أودع في مبنى معروف باسم «بيت مال مزيد» مبلغ 60000 ليرة، واستولى عجمي على المبلغ الكبير بالكامل وانتقل إلى شط الحي. وجاء شتاء آخر وبدأت قبيلة الظفير كالمعتاد في التحرك جنوباً تجاه أماكن استقرارهم المعروفة في: الدريسية، ودافنه، وأبو غار، والصليبية. وكان مزيد الذي يتطلع حوله باحثاً عن فرص للانتقام قد ذهب إلى قبيلة الظفير وتوسل إليهم لكي يعاونوه.
رقصة الموت
في غضون ذلك عبر عجمي نهر الفرات، وهو يضمر الانتقام بسبب هزيمته الأخيرة. وكان على الدوام جوَّاداً بالمال مهما كان مصدره فلقد كان قادراً -بالمبلغ الذي سرقه من مزيد- أن يجمع عصابة تقدر بأربعمئة فرد من المرتزقة من جهات مختلفة، وتألفت قواته من أفراد من: مطير وشمر وبني مالك ومرتزقة آخرين، وبهؤلاء قام بغزو مناطق الظفير واعترض طريق فريق من قبيلة الظفير وقبيلة البدور عند نبعة، وجرت بعد ذلك أشد المعارك ضراوة في تاريخ الحروب القبلية في صحراء الشامية، وقد أوقعت قبيلة الظفير وقبيلة البدور هزيمة قاسية بعجمي وأتباعه، ويقال إنهم قد قتلوا نحو ثلاثمئة فرد منهم، بينما كانت خسائر الظفير والبدور لا تزيد على الأربعين قتيلاً. في اليوم التالي امتطى مزيد صهوة حصانه مبتهجاً بنتيجة المعركة وأخذ يقفز بحصانه أمام العرب المنتصرين، وهذا التصرف لم يلق القبول من الأعداء ولسوء الطالع أن هذا الرجل المسن، كان في الثمانين من عمره، سقط عن ظهر حصانه ودقت عنقه.
فرصة انتقام رائعة
أوشكت موارد عجمي ابن سعدون باشا على الانتهاء، لذا اضطر إلى التصالح مع أعدائه، فدعا حمود بن سويط شيخ قبيلة الظفير لكي يشاركه الإقامة بالقرب من كابدة، ووافق حمود واستقر بجواره في حوالي خمسين بيت شعر. واستهجنت بقية قبيلة الظفير هذا التصرف منه. ومن الصعوبة بمكان التكهن في ما إذا كان عجمي قد دبّر أصلا الخيانة أو كان مدفوعاً إلى ما عمله بسبب عدم الود من بقية قبيلة الظفير. وعلى أية حال فلقد أرسل سراً إلى قبيلة مطير يعرض عليهم هذه الفرصة الرائعة للانتقام، ووصلت قبيلة مطير، وهي مستعدة تماماً لشن الغارة، واحتج حمود بن سويط على عجمي بسبب خيانته الشائنة. وقام عجمي وهو نادم بمحاولة تفريق مطير، ولكنهم كانوا عنيدين فلقد جاءوا لشن غارة أو القتال بناءً على دعوة صريحة منه، وكانوا مصممين على المضي في ذلك الأمر، واضطر عجمي للخضوع لما دبره وارتد إلى نيته الأصلية لدعوة قبيلة مطير، وأصبح مثلا سائرا بين العرب مرتبطا بعجمي «قَلَب (انقلب) علي ابن سويط»، وأصبح حمود والخمسون بيت شعر معه فريسة سهلة لقبيلة مطير، ولقد عرف ذلك الأمر منذ ذلك الوقت باسم «القَلْبَة».
قتال البدو
وحلّ بعجمي انتقام سريع، فلقد وصلت أخبار الحدث بسرعة إلى قبيلة البدور، وهم أصدقاء قدامى لقبيلة الظفير وملجأهم وقت الشدة، وبعد شهرين من «القَلْبَة» نال الظفير والبدور من عجمي وهزموه في شقراء.
ومهما اشتد اقتتال البدو؛ لا يمكن أن يضعف من القبيلة... فالكثير من أسرى المعارك يُطلَق سراحهم ويعودون إلى القتال مرة أخرى... لذلك لا أمل في أن يهدأ لعجمي بال؛ وكان مكتئباً إلى حد ما بسبب هزيمته الأخيرة.
لم يمضِ أكثر من شهرين بعد ذلك حتى شارك ابن رشيد بالإغارة على فخذ العريف من قبيلة الظفير في تقيد، ثم شارك مع قبيلة مطير بهزيمة السويط في القصير.
شيوخ وزعماء قبيلة شمر في مطلع القرن العشرين
السلطان عبدالعزيز آل سعود ومرافقان إنكليزيان في إحدى الثكنات البريطانية
الأمير الشاب سعود العبدالعزيز الرشيد
قوارب «البلم» تتهادى في شط العرب عام 1916 بعدسة غيرترود بيل
قوات بريطانية في إحدى الثكنات أثناء الحرب العالمية الثانية
«يتبع»
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]