لمحة عن هجرة القبائل العربية من اليمن..الجبور انموذجاً
بقلم: الباحث
وليد الصكر
بغداد
2024/5/26
● تمهيد
تكتسب هجرات القبائل العربية من اليمن إلى بلاد الشام والعراق اهميتها التاريخية ودورها في وحدة المنطقة جغرافياً وتاريخياً وحضارياً، وكانت منطقة الشمال (العراق والشام ومصر) مجالاً حيوياً لاستيعاب هجرة سكان الجزيرة العربية منذ زمن طويل، وان هذه الهجرة من القبائل العربية وتحركها هو نتيجة الكثافة والكثرة العددية و عدم كفاية المراعي في مناطق السهوب (الرعي) وقلة مصادر المياه والتزاحم والاحتكاك الذي يحدث حولها بين حاجات السكان كأشخاص ومواشيهم من قطعان ابل واغنام وخيل وحمير وغيرها.
● معاناة خلال الرحلة
ان هذه التحركات كانت غير يسيرة وحقيقة هي رحلة كانت تتخللها صور مؤلمة تحبس الأنفاس وتجعلك تشعر بمعاناة تعصر القلب عند سماعها ، فمثلاً ترى ام تفقد ابنها وتهيل عليه التراب بيديها، نتيجة نقص المياه، وان الكثيرين فقدوا حياتهم لحاجتهم إلى رشفة ماء ولو قليلة، أو عائلة لا يوجد عندها مياه لغسل الميت، أو نقود لشراء الكفن، وربما يهال عليه التراب بدون صلاة لعدم وجود ملا ليؤم المصلين والدعاء اللازم للميت.
● الحركة بشكل كتل بشرية
ان هذه الظروف اجبرت القبائل لتكوين سكان (كتلة بشرية) متحركة غير ثابتة وغير مستقرة تاريخياً حول هذه المناطق الرعوية. واذا جاز التعبير ان نطلق على هذه الحركة ظاهرة المد والجزر بين القبائل ، وهذه الظاهرة هي التي جلبت موجات سكانية متتالية من البدو خارجة من اليمن اولاً ثم خارجة من الجزيرة العربية، وهذا التحرك بالخروج جاء نتيجة ان القبيلة القوية تجبر افرادها بالتحرك نحو الشمال والشرق. وقد وصفت هذه العملية بمثل عربي كان سائداً يقول : (اليمن مهد القبائل العربية والعراق قبرها).
ولغياب التدوين والسجلات التفصيلية لم يتم شرح وتفسير هذا المثل بشكل كافٍ، ولكن آثاره على الأراضي التي تم الاستقرار عليها كانت واضحة ومهمة تستحق طبيعتها تحليلاً موجزاً.
ومن تلك الشواهد التي يمكن رؤيتها بصورة واضحة ومن كل الجوانب، هو التوزيع الحالي للقبائل، وكذلك التقاليد الخاصة باصولهم.
● بداية الهجرة قبل 1600م.
واحدث مثال على ذلك (قبيلة الجبور). حيث كانت هناك حركة للقبائل بالهجرة برزت حوالي عام (1600م) وفي هذه السنة قد بدأت هجرة الجبور الكثيفة وبمعدل ثلاثة أضعاف التحركات التي سبقتها. ومعنى سبقتها اي ان هناك اشارات تاريخية عن مجاميع وصلت قبل هذا التاريخ، فمثلا يذكر الغياثي في تاريخه ان عشيرة الجحيش الزبيدية و (آل جوذر) وهم فرع من الجبور الزبيدية قاتلهم المشعشع سنة (1478م) في قناقيا (جناجة) قرب الحلة.اي ان الجبور لهم تواجد قبل اكثر من قرن من ذلك التاريخ. كما أن فون اوبنهايم يرجح ان يكون البو شعبان وهم فرع من زبيد هم الأقدم وصلوا إلى بلاد الرافدين العليا اي (الجزيرة) ويرجع تاريخهم إلى القرن الرابع عشر الميلادي. ان فون أوبنهايم عند مراجعته أعماله فينسب زبيد العراق خاصة (الجبور والدليم) إلى زبيد منطقة بلاد الرافدين العليا، حيث يجد ان علاقات السكان تؤكد إمكانية وقوع هجرة لجماعات سكانية، ويعود فيقول انه ليس لزبيد وجود في العراق اقدم من القرن السابع عشر الميلادي. وهذا مخالف لما ذكرنا آنفاً انه سنة 1478م، هاجم المشعشع الجحيش وآل جوذر وكلتا القبيلتين زبيدية الانتماء، والحادث في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي.
● المسير نحو المراعي
كما أن قبائل البدو العرب لديهم الموهبة في قص الأثر على الأرض والرمال إلى درجة ان كل بدوي يعرف أقدام ابله واثار أقدام ابل جيرانه، كذلك موهبة هذه القبائل بمعرفة مناطق هطول الأمطار مثل الخط المطري جنوب الموصل، فلذلك كانت هجراتهم الموسمية إلى حدود منطقة هطول الأمطار وان وجدت فرصة فسوف يدخلونها مدفوعين بالضغط من خلفهم ومنجذبين باغراء مراعيها الكثيفة والمياه الغزيرة المتوفرة.
:● الموانع الطبيعية
وكان وصولهم لا يكون الا عبر طريقين، اما عبر وادي الخابور أو باتجاه الشرق عبر سهل جنوب جبل سنجار إلى دجلة. وقد منعت تحركهم سلسلة التلال الناتئة، حيث أن جبل سنجار يرتفع حوالي (1000م) فوق السهل ولا يمكن عبوره الا من مواضع قليلة جدا، ويستمر المانع الطبيعي باتجاه الجنوب الشرقي، من تلعفر إلى نهر دجلة عند القيارة بواسطة سلسلة من التلال المتقطعة مثل جبل الشيخ إبراهيم وجبل شنين وجبل جوان وجبل نجمة وهي اقل خطورة من جبل سنجار، ولكنها تشكل عائقا ً أمام التواصل كما ذكرنا، بإستثناء المعابر المحددة بصورة جيدة ودقيقة. أما المانع من جهة الشمال هو جبل عطشان المطل على وادي دجلة عند الموصل. ومن الموانع البعيدة إلى الجنوب ولكنها موازية لجبل نجمة هي سلسلة جبال مكحول الوعرة، وهي امتداد لجبل حمرين من الشمال الغربي،
● نقطة العبور والاتصال
ولا يفصلها عنه سوى مضيق دجلة (الفتحة) وهي المكان والنقطة الوحيدة التي يكون فيها الاتصال بين السهوب (المراعي) ونهر دجلة شمال الوادي دون عوائق تقريبا، وتعتبر السرج الذي يجب المرور منه إلى الجانب الأخر. والسهوب بين جبل نجمة وجبل مكحول بعرض (30 كم)، ويعتبر ممر يربط أعلى الثرثار ومنطقة الحضر مع وادي النهر بين القيارة والشرقاط موقع مدينة اشور القديمة. وعند هذه النقطة يعبر الحد الخارجي لهطول الأمطار (يعبر) نهر دجلة.
● انتشار القبائل
وقد تبعت الجبور في التحركات وعلى مدى القرنين التاليين قبيلتي شمر وعنزة. وانتشرت أجزاء من قبيلة الجبور في الأطراف الشمالية والشرقية للمراعي والسهوب، كرعاة ومزارعين شبه رحل في منطقة الخابور، وكقرويين في وادي نهر دجلة اسفل الموصل وجنوبه، مع انتشار جزء صغير آخر شمال الموصل بين العراق والشام، ومن هذه القرى: زمار واسكي موصل، وهناك مجموعات صغيرة من الجبور وصلت شمال السهول الغرينية على نهر الفرات بالقرب من الحلة واطرافها، ومجموعة آخرى استقرت مع نهر دجلة جنوب بغداد، ووصل جزء من هذه المجموعة نهر ديالى بالقرب من (دلي عباس)، أما ما بقي من الجبور الذين وصلوا اولا قد ظلوا مستقرين عند أعلى نهر الخابور.
● طيء أقدم القبائل هجرة
ان قبيلة الجبور في الموصل عاشت جنباً إلى جنب مع فروع قبيلة طيء. وقبيلة طيء من القبائل العربية الارستقراطية والتي هاجرت قبل الجبور بأكثر من ألف عام، وكانوا حتى نهاية القرن التاسع عشر شبه بدو وكانوا يسيطرون على اكثر الأراضي التي تقع مباشرة شرق نهر دجلة بين الزاب الكبير والصغير. وبعد ذلك أصبحت السهوب (اماكن الرعي) قسمة بين شمر في الشمال والشـرق، وعنزة في الجنوب .
● تهدم سد مأرب والأساطير وهجرة القبائل
ان هذه الهجرات والتحركات الكبيرة حتماً لها اسباب عديدة ولكن لا يتوفر لدينا سوى اشارات متفرقة في التاريخ ممزوجة مع الخرافات والاساطير، ومن مقاصد بحثنا الخروج من شوائب التخلف والابتعاد عن هذه الأساطير ومنها على سبيل المثال أسطورة الفأرة التي أسقطت سد مأرب الذي بني نحو (600 ق.م) وقد جاء ذكر تهدمه في القرآن الكريم في سورة سبأ قال الله ﷻ [لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)]. مع هذا هناك إمعات لما تزل تردد تلك الخرافات، وأسوأ وصمة يوصم بها المرأ أن يدعى (إمعة)، اي ببغاء، يردد أو يتجه مع الناس حيثما قالوا أو اتجهوا وجاء في الأثر: (أغد عالماً او متعلماً، ولا تكن إمعة) .
● الاكتظاظ والتزاحم والاحتكاك
هناك العديد من الكتاب والباحثين وصفوا المشكلة دون توضيحها، فنسبوا هذه الهجرات إلى الاكتظاظ السكاني.
ونتيجة هذا حدث الاحتكاك بين القبائل، ففي منتصف القرن التاسع عشر ، اغارت قبيلة طيء على الجبور، وقبيلة شمر اغارت على طيء.
● السلب والنهب وطرق التجارة
وادى هذا إلى زعزعة أمن طرق التجارة، مما اجبر أمراء وعكامة القوافل التجارية الى تغيير اتجاههم وأخذوا ينحرفون باحمال قوافلهم ومواشيهم شرق نهر دجلة ويمرون عبر مدينتي أربيل وكركوك محاطين بتلال القرى الكردية، لتجنب التسليب والنهب التي كانت تقوم به مجاميع من القبائل العربية من طيء وشمر والعبيد، وكذلك كانت منطقة الشرقاط خطرة كونها مكان التقاء لجميع أطراف مجاميع النهب والتسليب، سواء من شمر أو عنزة أو عبيد.
● هنري لايارد وشيخ الجبور
وعندما زار المنطقة عالم الآثار هنري لايارد كان يتنقل بين المواقع الأثرية تحت حماية فرسان الجبور (سيد محيميد من عشيرة عميرة العجل) وبعد ذلك كان برفقة احد شيوخ الجبور (الشيخ عبد ربه).
وقد غادر هذا الشيخ بعد ذلك المنطقة مع قبيلته بسبب انه رأى هذه السنة غير ممطرة (سنة محل) والمراعي غير كافية على غير المعتاد كل عام، ولم يتمكن (الجبور) من العثور على مرعى لقطعانهم، لذلك تركوا عددا قليلاً من ابنائهم لزراعة الدخن في منطقة النمرود، بينما هاجر (الشيخ عبد ربة) والجزء الأكبر من القبيلة إلى منطقة أعالي الخابور بالقرب من نصيبين.
●توزيع القبائل
ولا بد أن نشير إلى توزيع القبائل سابقة الذكر، كقبيلة شمر الحديثة فإن عاداتها وتحركاتها تعكس نمط جغرافي واضح استمرت عليه بشكل وثيق جدا. وبالنسبة لفروع قبيلة طيء تتواجد عند رأس الرافد الشرقي لنهر الخابور، وبعضها لها تواجد واستقرار شرق تلعفر أيضا. أما قبيلة الجبور تتواجد على نهر الخابور وفي القرى الواقعة على طول وادي نهر دجلة بين الموصل والشرقاط. أما شمر الشمال فتمتد إلى نهر الفرات ، وهي تنقسم إلى قسمين رئيسين يتمركزان على التوالي طول حوض الخابور والسهوب (المراعي) جنوب سنجار.
ومن المثير للاهتمام نلاحظ ان قبيلة شمر العراقية استخدمت منذة فترة طويلة منطقة الحضر كأحد مخيماتها الرئيسية للرعي في فصل الربيع.
● شمر بين الحضر والشرقاط
وانه عندما قرر الشيخ (عجيل الياور) وهو (شيخ مشايخ شمر) ان يبني لنفسه مسكناً دائم، إختار موقعا على نهر دجلة قرب الشرقاط الحديثة، تبعد (8كم) شمال اشور (قلعة الشرقاط)، ومنزل آخر في القيارة على طريق السيارات المؤدي إلى الحضر والذي يصل إلى نهر دجلة، ولكن (الشيخ) كان أكثر تواجده في (الحضر) وخاصة في فصل الربيع. ولابد ان نحلل سبب اختياره لموقع الحضر وهو إختيار صائب، حيث أن موقع الحضر يتمتع بميزات طبيعية منها توفر المياه قليلة الملوحة من وادي الثرثار.
وفي تحليلنا نرى ان إختيار (الشيخ) لمنطقة الحضر كمخيم (مراعي) والشرقاط محل إقامة، يبدوا انها علاقة سببية ذات صلة بالسيطرة القديمة لشمر على المنطقتين.
● نهاية الخاوة (ضريبة العشر)
وكانت العشائر المجاورة، وابناءها العاملين في المنشآت بما فيها الجبور تدفع (العشر) لفترات طويلة، حتى جاء اليوم الذي امتنع الجبور عن تأديته ، ففي ذلك اليوم حدثت اشتباكات ومعركة بين محصلي العشر وهم من بدو شمر وعمال مصفى القيارة عرفت بمعركة (دگة گيارة)، وبعد هذه الواقعة لم تدفع عشيرة الجبور ضريبة العشر..
● التراث والمدينة
عزيزي القاريء ارجوا ان اكون قد وفقت بايصال لمحة عن هجرة القبائل وتحركاتها من اليمن والجزيرة العربية نحو مناطق الرعي ووفرة المياه في العراق والشام،
وأود ان انوه إلى أن اغلب ابناء هذه القبائل اليوم قد اندمجوا بالحضارة المدنية، وتركوا الخيمة وبنوا البيوت فسكنوا المدن والقرى، وانخرطوا بمؤسسات الدولة أو باعمال حرة وهذه الهجرة الداخلية إلى المدن قد كانت مستمرة منذ أكثر من قرنين، ومن هؤلاء من ذاب تمامآ في المدينة، حتى بدأ يلقب باسم مدينته أو بأحد محلاتها.
●المحافظة على العادات والتقاليد
والبعض الآخر سكن المدن واندمج مع مجتماعتها، ولكنه بقي محافظا على (حرد) قبيلته، والتراث والعادات الايجابية ومنها الكرم الزائد في إكرام ضيفه، ويقدم له كل ما لديه وهو مبتهجا مرحبآ، حتى وان لم يبق له طعام، وجاء في سورة الحشر
قول الله ﷻ [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ * (9)]، وكذلك الغيرة ، والنخوة، وحسن الجوار بتقديم (منيحة) لمن لا شاة له ولا بعير، أو (عرية) لمن لا نخل له، واغاثة اللهفان والتواصل مع اصوله وفروعهم..
● الخلاصة والخاتمة
وختاماً هذا ما قدرت على جمعه وتوضيحه خدمة للجميع، وغرضي إضافة لمحة تكون نواة لمن يريد المعرفة في هذا المجال.
ولا شك انه عمل قصير مقتظب لكنه ليس سهلاً، ولكن حاولت فك الالتباس عليَ وعلى من سبقني، واعترف اني قد استفدت كثيراً من مصادر وكتب راجعتها لأضع هذه السطور بين يديك.
ولم أدع اني الممت بكل شيء إنما هذه لمحة مختصرة، وخلاصة مفاتيح لتساؤلات لما تزل تطرح عن أصل المكان والزمان الذي حطت فيها قبائلنا ركابها واستقرت فيه.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
● المصادر
----------
1. القرآن الكريم
2. عبدالحكيم الوائلي، موسوعة قبائل العرب
3. جون لويس بوكهارت، ملاحظات عن البدو
4. د.محمود ابو صورة (واخرون)، التحركات البشرية والهجرات اليمنية
إلى الشام وشرق شمال أفريقيا قبل ظهور الإسلام وبعد ظهوره
5.ديفيد اوتس، دراسات في تاريخ شمال العراق القديم (باللغة الانجليزية)
6. ماكس فون أوبنهايم، البدو
7. هنري أوستن لايارد، اكتشافات بين اثار نينوى وبابل (باللغة الانجليزية)
8. غياث الدين عبد الله بن فتح الله البغدادي، تاريخ الغياثي
9. د.علي عفيفي علي غازي، بدو العراق والجزيرة العربية بعيون الرحالة
10. عاتق بن غيث البلادي، أخلاق البدو
●روابط خارجية
----------------------
اضغط هنا للاطلاع على نسب قبيلة الجبوراضغط هنا للاطلاع على تفاصيل معركة دگة كيارة